السياسة بين الطهارة والنجاسة .. محمد عوض
| |
* محمد عوض
انقسم الناس إزاء السياسة أقساما مختلفة :
•
فمنهم من رآها رجسا من عمل الشيطان لا يجوز الاقتراب منه صونا لدينهم
وأخلاقهم ، على اعتبار أنه – في تصورهم – لكى ينجح من يمارسها فإنه لا بد
له من أن يتنازل عن أخلاقه ومبادئه وقيمه ، لأن السياسة - عندهم - لا
ميدان لشيء من ذلك كله ، وأعلن هذا الفريق رأيه صراحة في قوله : (لعن الله
ساس ويسوس وكل ما اشتق من هذا المصدر..) لأنها تعتمد مبادئ مفسدة للأخلاق
من نحو : (الذى تغلب به العب به ..) وخلافه ، وقد عزز هذا التصور ممارسات
وأفعال السياسيين لا سيما في مواسم الانتخابات.
• وفريق آخر رأى ضرورة المشاركة فيها والتخلق بأخلاقيات أهلها ، ورأى
ضرورة الفصل بين الأخلاق التي ينبغي أن يتخلق بها الإنسان في نفسه ، وعلى
مستواه الفردي ، وبين الأخلاق التي يتخلق بها على المستوى الجماعي أو
الحياتي أو السياسي ، (فهذه نقرة وهذه نقرة) ، وهذا الصنف لا يرى حرجا في
أن يصلى ويزكى ويحج ويعتمر ويعمل أعمال الخير ، ثم هو ينافق سياسيا أو
يبحث عن منفعته الفردية ....الخ .
وهؤلاء هم الذين ربوا تربية علمانية خالصة أشاعت في تربيتهم مفهوم أن
القرآن (كتاب ديني) لا علاقة له بشئون الدنيا ، فهو يقرأ على الموتى
وللتبرك وليتكسب منه الكسالى ، وكرست ازدواجية التعليم هذا الفهم .
وبالتالي انفصل القرآن عن النخبة السياسية والأكاديمية في الأمة .
• وهناك طائفة أشد علمانية من هؤلاء :
وهم
جماعة من المغفلين المسلمين الذين خدعوا بعلمانية (الدول الغربية) ، وأن
الغرب قد بنى تقدمه على (الفصل بين الدين والدولة)، واستقر في أذهان
هؤلاء (المغربين) منذ القرنين الماضيين أن الدولة (ظاهرة مدنية) ، يجب أن
يكون لها استقلال مباشر عما أسموه (بالظاهرة الدينية) ، ولم يلتفت هؤلاء
إلى أن الدولة في الغرب لم تضع الدولة في مواجهة الدين ، بل قامت بتنظيم
العلاقة بين الاثنين بحيث يحدث ذلك التنظيم بينهما نوعا من التعاضد
والتماسك في تحقيق أهداف الأمة ، أما المقلدون من أبناء أمتنا وجلدتنا ،
فقد فهموا أن المطلوب هو التخلي التام عن الدين ومحاصرة القرآن كما فعل
(أتاتورك) ، وكثير من حكام المسلمين بعد ذلك بأساليب متنوعة .
وبرز بين هؤلاء وأولئك فريق الاعتدال والوسطية ، الذى أخذ بضرورة
الاشتغال بالعمل السياسي انطلاقا من شمولية الإسلام ، وشمولية وثبات
النظام الأخلاقي فيه ، فنزل إلى هذا الميدان ليؤكد للناس على أن أخلاق
الإسلام كل لا يتجزأ ، وأن بالإمكان تجسيد الأخلاق الإسلامية في مجالات
الحياة كلها بما فيها الجانب السياسي ، فليس هناك ميدان من ميادين الحياة
يجوز للإنسان أن ينفصل فيه عن أخلاقياته فيعدو عليه تلون أو غدر ، لأنه
رأى هذا الشمول وهذا الثبات في القرآن الكريم ، وفى سنة وسيرة رسول الله –
صلى الله عليه وسلم – التي هي التطبيق العملي للقرآن الكريم ، وفى
تطبيقات أصحابه الكرام – رضى الله عنهم - .
ومن أمثلة ذلك – في الجانب السياسي تحديدا -:
1.
في صلح الحديبية صالح رسول الله- صلى لله عليه وسلم – قريشا على أن من
أتاه في المدينة من قريش مسلما بغير إذن وليه رده إليهم ، ومن أتاهم من
المسلمين بغير إذن الرسول – عليه الصلاة والسلام – لم يردوه ، وبينما
الكتاب يكتب إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده ، قد خرج من
أسفل مكة ، حتى رمى بنفسه بين ظهور المسلمين ، فقال سهيل : هذا أول ما
أقاضيك عليه : على أن ترده فقال النبي – صلى الله عليه وسلم - : إنا لم
نقض الكتاب بعد ، فقال : فو الله إذا لا أقاضيك على شيء أبدا ، فقال النبي
– صلى الله عليه وسلم - : فأجزه لي ، قال : ما أنا بمجيزه لك ، قال بلى
فافعل . قال : ما أنا بفاعل ، وقد ضرب سهيل أبا جندل في وجهه ، وأخذ
بتلابيبه وجره ليرده إلى المشركين ، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته : يا
معشر المسلمين أأرد إلى المشركين يفتنوني في ديني ؟ فقال صلى الله عليه
وسلم : يا أبا جندل اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين
فرجا ومخرجا ، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا ، وأعطيناهم على ذلك ،
وأعطونا عهد الله فلا نغدر بهم .
2.
أمر الله تعالى نبيه – عليه الصلاة والسلام – حين يخاف من قوم - بينه
وبينهم عهود ومواثيق – خيانة أن يعلمهم بأنه قد نقض عهدهم حتى يبقى علمه
وعلمهم بأنه حرب لهم وهم حرب له ، وأنه لا عهد بينه وبينهم ، (وَإِمَّا
تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ
اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ [الأنفال: 58]) ، فكيف طبق هذا الخلق
الرفيع في مجالات العلاقات الدولية؟
كان
معاوية يسير في أرض الروم , وكان بينه وبينهم أمد ، فأراد أن يدنو منهم
فإذا انقضى الأمد غزاهم ، فإذا شيخ على دابة يقول : الله أكبر الله أكبر ،
وفاء لا غدرا إن رسول الله- صلى لله عليه وسلم – قال : ومن كان بينه وبين
قوم عهد فلا يحلن عقدة ولا يشدها حتى ينقضي أمدها ، أو ينبذ إليهم على
سواء .
فبلغ ذلك معاوية فرجع فإذا الشيخ عمرو بن عنبسة.
وقائمة الأمثلة تطول ...
فمتى يعي هؤلاء هذا ؟ أم أنهم لا يريدون أن يعوا ؟ أم إنهم يعون ويتغافلون ؟
على كل فسيبقى الخلاف سنة من سنن الله تعالى في خلقه ، ولا يمكن حمل الناس على فهم واحد أبدا ، فهذا أمر ضد طبائع الأشياء.
ومن في الناس يرضى كل نفس .. وبين هوى النفوس مدى بعيد
لكن
المطلوب هو التخلق بأخلاق الاختلاف ، وأهمها : حسن عرض ما عندك وحسن
الانصات إلى الآخر ، وحسن التزام أدب الحوار ، والتي منها كذلك : هدوء
ورزانة ينبغي التحلي بها لترك الفرصة للحجة تعمل عملها مع الناس ، فالصوت
العالي في ذلك دليل ضعف ، لكن في زمن اختلاط المفاهيم ، وانحطاط ثقافة
الاختلاف يسود منطق : الصوت الأجهر والأطول وضعوه في الصف الأول والصوت
الخافت والمتوانى وضعوه في الصف الثاني
ــــــــــــ
باحث فى الدراسات الإسلامية
|
الاثنين، 4 فبراير 2013
السياسة بين الطهاره والنجاسة...
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق